الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
أي إذا تتابع.{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} أي أرضيتم الدنيا ودِعتها عوضاً من نعيم الآخرة وثوابها {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} ثم أوعدهم على ترك الجهاد {إِلاَّ تَنفِرُواْ} وقرأ عبيد بن عمير تنفروا بضم الفاء وهما لغتان {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في الآخرة، وقيل: هو احتباس القطر عنهم، سُئل نجدة بن نفيع عن ابن عباس عن هذه الآية فقال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حياً من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر فكذلك كان عذابهم» {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} خيراً منكم وأطوع، قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس، وقال أبو صلاح: هم أهل اليمن {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} بترك النفير {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} هذا إعلام من الله أنه هو المتكفّل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلاً وأعدائه كثيراً، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدّة فقال عزّ من قائل: إلاّ تنفروا أيها المؤمنون إذا استنفركم، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوّضه عنكم كما نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ}.وقيل: معناه: إن لم تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا من مكة حين مكروا به وأرادوا إخراجه وهموا بقتله {ثَانِيَ اثنين} نصب على الحال، وهو أحد الاثنين، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق {إِذْ هُمَا فِي الغار} وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} أبي بكر رضي الله عنه {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} للعون والنصرة، ولم يكن حزن أبي بكر ح جبناً منه ولا سوء ظن وإنما كان اشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ عليه أنه قال: يارسول الله إن قتلتُ فأنا رجل واحد، وإن قتلتَ هلكت الأُمة.همام عن ثابت عن أنس أن أبا بكر حدّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحداً نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: «يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما.» قال مجاهد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً.قال عروة: كان لأبي بكر منيحة من غنم فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما، فلمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج دعاهم وكانوا أربعة: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أُريقط الليثي.قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله زوجاً من حمام حتى باضا أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسج بيتاً، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت، قال لو دخلاه لتكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف.وقال النبي: «اللهم اعم أبصارهم» فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يميناً وشمالاً حول الغار.روى السري بن يحيى عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر بن الخطاب فكأنّهم فضّلوا عمر على أبي بكر، قال: فبلغ ذلك عمر فقال: والله لَليلة من أبي بكر خير من آل عمر، ولَيوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى وصل رسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال: يارسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق.فلما أتيا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يارسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأ حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنّه لم يستبرئ الحجر، فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجر فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يارسول الله فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لَتلك الليلة خير من آل عمر.أبو عوانة عن فراس عن الشعبي قال: لقد عاتب الله أهل الأرض جميعاً غير أبي بكر رضي الله عنه في هذه الآية، وقال أبو بكر: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} سكونه وطمأنينته {عَلَيْهِ} أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس: على أبي بكر، فأمّا النبي صلى الله عليه وسلم فكانت السكينة عليه قبل ذلك {وَأَيَّدَهُ} قرأ مجاهد: وأيده بالمد {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} أي المقهورة المغلوبة {وَكَلِمَةُ الله} رفع على مبتدأ وقرأ يعقوب: وكلمة الله على النصب على العطف {هِيَ العليا} العالية.قال ابن عباس: الكلمة السفلى: كلمة الشرك، والعليا: لا إله إلاّ الله {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} قال أبو الضحى: أول آية نزلت من براءة هذه الآية وقال مقاتل: قالوا: فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة، والشغل والمنتشر أمره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وأبى أن يعذرهم.واختلفوا في معنى الخفاف والثقال، فقال أنس والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان: مشاغيل، وقال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل. الحسن: مشاغيل، وقال أبو صالح: خفافاً من المال، أي فقراء وثقالا منه أي أغنياء، وقال ابن زيد: الثقيل الذي له الضيعة فهو ثقيل يكبره بأن يضع ضيعته من الخفيف الذي لا ضيعة له. قال: نشاط وغير نشاط، وقال عطية العوفي: ركباناً ومشاة، وقال مرة الهمذاني: أصحّاء ومرضى، وقال يمان بن رباب: عزّاباً ومتأهلين.وقيل: خفافاً مسرعين غير خارجين ساعة اتباع النفير. قال: خفّ الرجل خفوفاً إذا مشى مسرعاً، وثقالاً أي بعد التروية فيه والاستعداد له.وقيل: خفافاً من السلاح أي مقلّين منه وثقالاً مستكثرين منه، فالعرب تسمي الأعزل مخفّاً.وقيل: خفافاً من ماشيتكم وأبنائكم وثقالا متكثّرين بهم {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} علي بن زيد عن أنس: إن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} فقال: أي بني جهّزوني جهّزوني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنه حتى ماتا، فنحن نغزو عنك، فقال: جهزوني، فغزا البحر فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلاّ بعد سبعة أيام فدفنوه فيها فلم يتغير.وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنّك عليل، صاحب ضرّ فقال استنفر له الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنني الحرب كثّرت السواد وحفظت المتاع.
وقال: قال محمد بن إسحاق يعني: أسرع الفرار في أوساطكم وأصل الخلال من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وبين القوم في الصفوف وغيرها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تراصّوا في الصفوف لايخللكم الشيطان كأولاد الحذف».{يَبْغُونَكُمُ الفتنة} أي يبغون لكم، يقول: يطلبون لكم ماتفتنون به، يقولون: لقد جمع العدو لكم فعل وفعل، يخبلونكم.وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني الغيب والسر، وقال الضحاك: يعني الكفر، يقال فيه: بغيته أبغيه بغاء إذا التمسته بمعنى بغيت له، ومثله عكمتك إن عكمت لك فيها، وإذا أرادوا أعنتك عليه قالوا: أبغيتك وأحلبتك وأعمكمتك.{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قال مجاهد وابن زيد بينكم عيون لهم عليكم يوصلون مايسمعون منكم، وقال قتادة وابن يسار: وفيكم من يسمع كلامهم ويطبعهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين * لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} أي عملوا بها لصد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر بتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} أجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتّت أصحابك.{حتى جَآءَ الحق} أي النصر والظفر {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} دين الله {وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} الآية.نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا تجهّز لغزوة تبوك، قال له: يا أبا وهب، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم وصفاء، قيل: وإنما أمر بذلك لأن الحبش غلبت على ناحية الروم فولدت لهم بنات قد أنجبت من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفر اللعس، فلمّا قال له ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جد: يارسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فلا تفتنّي بهن وائذنْ لي في القعود وأُعينك بمالي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك»، فأنزل الله ومنهم يعني ومن المنافقين من يقول أئذن لي في التخلف ولا تفتنّي ببنات الأصفر، قال قتادة: ولا تأتمنّي {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} ألا في الإثم والشرك وقعوا بخيانتهم وخلافهم أمر الله ورسوله {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} مطيقة بهم وجامعتهم فيها، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة وكان منهم: «من سيّدكم؟» قالوا: جدّ بن قيس غير أنه نحيل جبان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوى من البخل، بل سيّدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور» فقال فيه حسّان:
|